بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 24 يناير 2010

فون كليتزنج الحائز على نوبل الفيزياء: الوصول للنهاية يعنى تحقيق اكتشاف جديد


أجرى الحوار أحمد بلح: مكنت تجاربه العلماء من دراسة خواص التوصيل الكهربي للأجهزة الإلكترونية بدقة متناهية، كما ساعدت فى وضع طرق قياس للمقاومة الكهربائية ذات دقة فائقة، فقد كان أول من ربط بين حركة الإلكترونات فى مداراتها وسرعة الضوء. إنه " كلاوس فون كليتزنج " الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء عام 1985.
o ولد كلاوس فون كليتزنج فى 28 يونيه 1943 فى سكرودا فى ألمانيا، والتحق بجامعة برونشويج التقنية، وتخرج منها 1969 ثم حصل على شهادة الدكتوراه فى الفيزياء من جامعة ورزبرج 1972. وفى عام 1980، أصبح أستاذاً بجامعة ميونخ التقنية، ومنذ عام 1985 ترأس معهد ماكس بلانك بشتوتجارت أحد أكبر المعاهد العلمية فى العالم.

o وقد جاء هذا الحوار على هامش مؤتمر " آينشتين" الذى انعقد فى مكتبة الأسكندرية مع بدايات فصل الصيف الماضي، وحضره لفيف من أبرز علماء الفيزياء فى العالم بمناسبة الاحتفال العالمي بعام الفيزياء.

o أجرى الحوار / أحمد بلح

- عن أى إنجاز علمى، جاء حصولك على جائزة نوبل ؟
- نلت الجائزة عن اكتشاف علمي فى الفيزياء النظرية يفيد بأن المقاومة الكهربائية الموجودة فى الموصلات تظهر فى وحدات محددة، وهو ما يطلق عليه علمياً مفهوم تكميم المقاومة، نسبة الى نظرية الكم لماكس بلانك. جاء هذا الاكتشاف عن طريق تطبيق قانون يعرف لدى الفيزيائيين بـ " تأثير هال "، وهو يشير للقوة الكهربائية المحركة التى تنشأ بين طرفي موصل رفيع يمر به تيار كهربائي، وموضوع على قطبي مغناطيس قوي.وقد أثبت أن المقاومة تتغير فى شكل خطوات منفصلة بدلاً مما كان يعتقد بأنها تتم فى سلاسة وباستمرار.

- أرجو مزيداً من التوضيح لطبيعة هذا الاكتشاف، ومدى أهميته؟
- لقد اكتشفت أنه عندما يكون المجال المغناطيسي لأى مادة موصلة للكهرباء قوي جداً ودرجة الحرارة منخفضة جداً فإن " مقاومة هال " لهذا الموصل تتغير، بحيث تقفز بالطريقة التى أوضحتها سابقاً، أى بشكل غير متصل أو مترابط. وكنت أنا أول من لاحظ أن مقياس هذه القفزات يرتبط بـثابت فيزيائي يعرف الآن بـ" ثابت البناء الدقيق "، يمثل النسبة الرياضية بين حركة الإلكترون فى مداره حول نواة الذرة إلى سرعة الضوء. ولهذا الاكتشاف أهمية كبيرة فيما يتعلق بخواص الأنظمة الإليكترونية ذات الأبعاد الصغيرة، والتى أصبح لها تطبيقات ضمن ما يعرف بعلوم النانو تكنولوجي.

- نود منكم أن تعرف للقارئ غير المتخصص ماذا نعنى بعلوم النانوتكنولوجي؟
- النانو عبارة عن وحدة قياس صغيرة جداً جداً، تتناول وصف أشياء لا ترى بالعين. غالبيتنا يعرف وحدة الملليمتر، وهناك وحدة أصغر منها بألف مرة تعرف بالميكرومتر، يليها فى الصغر النانومتر، وهو الآخر يقل عن الميكرومتر بألف مرة. والنانومتر وحدة لوصف أشياء موجودة فى الطبيعية، ولكنها تتسم بأنها دقيقة جداً فى أبعادها، لذا لا يمكن لنا رؤيتها بالعين المجردة.
o نحن نعرف أن الطبيعة تنبني من الذرات التى كنا نعتبرها إلى وقت قريب وحدات بناء المادة، وأى شئ لا يخرج فى تكوينه عن تجمع من الذرات التى يزيد أعدادها فى الطبيعة قليلاً عن 100 ذرة تدخل فى كل شئ من حولنا، وبقدر نسب هذه الذرات داخل مكونات أى مادة يكون الاختلاف فى خواصها، و ألوانها، ومظهرها ناعم أم خشن، وغيرها من الخواص الأخرى التى تميز المادة عن غيرها.




- وما هى أهم التطبيقات التى نتجت عن اختراق هذه الآفاق العلمية البعيدة جداً؟
- لقد أصبحنا قادرين اليوم على رؤية هذه الوحدات البنائية الصغيرة، والنظر إليها بواسطة بالميكروسكوبات، كما تمكنا من استخدامها فى تنمية مواد جديدة لبناء أجهزة وتقنيات ذات أبعاد دقيقة جداً، حيث نشكل منها طبقات يمكننا التحكم فيها لعمل هذه الأجهزة عند هذا المستوى الدقيق الغير مرئي. وقد بدأ عدد كبير من الدول، ومنذ قرابة 10 سنوات، فى تطوير برامج علمية عديدة للاستفادة من علوم النانو فى محاولة لفهم الطبيعة عند هذه المستويات الدقيقة.
o وأنا شخصياً أشتغل بشكل أساسى على فيزيا أشباه الموصلات، كما يوجد لدينا فى هذا المجال تطبيقات على ما يعرف بالأجهزة الميكروإلكترونية، وأخرى على الليزر، وأجهزة الترانزيستور السريعة جداً.


- ولكن، هل يعنى الوصول للأبعاد الأساسية للذرة نهاية لهذا المجال، أم أنه بداية لمجالات علمية أخرى جديدة؟
- أنا شخصياً، سألت نفسى هذا السؤال، ماذا لو تمكنا من الوصول إلى تصنيع وبناء أجهزة ذات أبعاد أصغر وأصغر؟! وبالفعل منذ 30 عاماً، تمكنا من تقليص أحجام الأجهزة الميكروإلكترونية. ويعتقد كثير من العلماء أنك إذا وصلت لأبعاد الذرة لن تستطيع تحقيق ما هو أصغر. ولكن، أظن أنا ومن وجهة نظري أن الوصول لنهاية أى شئ، ربما يعينك اكتشاف شئ آخر جديد.ونحن نتكلم ببساطه عن أصغر منظور نظر به الإنسان لوحدات تركيب الكون والمادة.. فهل نستطيع القول إننا لن نستطيع التعمق لأكثر من ذلك؟! ، أم هى بداية لعلم آخر يمكن ارتياده؟ . أظن، ومن واقع عملي وما نتوصل إليه من اكتشافات، أنها بداية لشيء جديد.

- من أين جاءتك هذه القناعة بأن هذه الاكتشافات المتقدمة جداً ما هى إلا مجرد بداية لعلوم أخرى لم يطرق العلم أبوابها من قبل؟
- لو نظرت لاكتشافات نظرية ميكانيكا الكم العظيمة لتمكنت من فهم ذلك، فقبل 100 عام من الآن، عندما تمكن آينشتين من تطوير نظرية الكم التى اكتشفها ماكس بلانك باكتشافه الظاهرة الفوتوضوئية، تلى ذلك اكتشافات أخرى عديدة على أيدى علماء آخرين مثل الخاصية الموجية للضوء، ومبدأ عدم التأكد، هذه الاكتشافات العلمية قادتنا لأشياء جديدة، على الرغم من أن الأسس النظرية الذى قامت عليه وقتها لم تكن معروفة على مستوى واسع.

- وهل توجد تطبيقات توصلتم إليها فى مجال عملكم؟
- نعم، توجد بعض البلدان التى بدأت العمل فى هذا المجال، وأخرى تحذو حذوها، لكن ذلك غير معروف الآن كمنتج تسويقي يمكن الاستفادة منه، فهناك فارق بين البحث العلمى والمنتج القابل للتسويق، وبالنسبة لى، فإننىكباحث أعمل الآن كمدير بمعهد ماكس بلانك، يمكننى القول- وخصوصا فى مجال تخصصي: إنه يمكن استخدام تطبيقات النانو فى كثير منها، ولكنى أيضاً لا أستطيع الجزم بذلك لأن وظيفة العالم أو مراكز الأبحاث هىكشف الستار عن الجديد عن طريق فهم الأسس العلمية التى تقوم عليها الظواهر الطبيعية مما يولد لدينا أفكاراً جديدة تفيد فى خروج تطبيقات جديدة، ولكن ليس من أولوياتنا الاهتمام بالتطبيقات إلى حد ما، فالمعنى بذلك هى الشركات.

- فى رأيك، هل تعتقد بإمكانية أن نصل لإنتاج تقنيات أقل حجماً من المستوى الذري؟
- فى مجال إنتاج وإدارة الأجهزة ميكانيكياً أو إلكترونياً، تعتبر الأبعاد الذرية هى الأصغر، على الرغم من أن علماء فيزياء الطاقات العالية يعرفون الآن بوجود جسيمات أصغر تدخل فى تكوين الذرة هى البروتونات والنيترونات، الكواركات وغيرها من الجسيمات، ولكن الوصول للطاقات العالية مازال أمراً شاق جداً يحول دون إنتاجها، وبالتالى إمكانية التحكم فيها لانتاج أجهزة على هذا المستوى الدقيق، لذا أعتقد أن الجميع يتفقون فى الوقت الحالي على أن الأبعاد الذرية هى أصغر وحدات القياس الموجودة الآن التى يمكننا التعامل معها، فنحن نستطيع الآن وضع الذرة فى موضع معين ثم التحكم و تحريكها من هذا الموضع لآخر، ولكن حتى هذا يتم بطريقة بطيئة جداً، ولعل من الجدير بالذكر أن العالم " ريتشارد فاينمان " كان أول تنبأ بإمكانية حدوث ذلك.




- وكيف أصبحت العلاقة بين تقنيات النانو وميكانيكا الكم؟
- أود أن أشير هنا إلى أنه ليس كل ما هو دقيق الحجم يندرج ضمن مركبات النانو، وبالنسبة للنانو فهى وسيلة لتوليد منتجات جديدة صغيرة الحجم جداً، فنحن لا نستطيع أن نستثمر تقنيات النانو فى إنتاج الأنظمة الكبيرة، ولكن النانو يمكنها إنتاج أجهزة على مستوي ذرى دقيق جداً لأداء نفس الوظيفة أو المهمة التى تقوم بها الأنظمة الكبيرة وبنفس الخواص. أما ولادة فكرة الكم فقد ارتبطت بخاصية انتقال الإلكترونات بين المستويات مختلفة الطاقة داخل الذرة بغض النظر عن التماثل الموجود بين الإلكترونات فى ذاتها، فمع عملية انتقال الإلكترون من مستوى للطاقة لآخر ينتج شيء ما جديد.

o يتاح لى أحياناً فرصة زيارة بعض المراكز التطبيقية العاملة فى هذا المجال. وقد وجدت محاولات لانتاج أجهزة تستطيع المرور خلال مجري الدم فى الجسم، ويتم توجيهها للوصول الى الخلايا السرطانية وتدميرها دون إحداث أي أذى للخلايا المجاورة السليمة. كما تستخدم الأنابيب النانوية فى مجال تحفيز التفاعلات الكيميائية، حيث نستطيع بناء هذه الأنابيب على أي شكل كان بحسب تحريكنا كعلماء وباحثين لمجريات التفاعل المكون لها.

o ومن المعروف أيضاً، أن الروابط الكيميائية بين ذرات الكربون داخل الجزيئات الكربونية تكون قوية جداً، ومن أبرز الأمثلة على ذلك "الماس" الذى يعد من أقوى المواد الموجودة فى الطبيعة، وأكثرها قساوة، إلا أن المعالجة الكيميائية المختلفة لهذه المواد ينتج مواداً مختلفة يمكنها الإبقاء على بعض الصفات كالصلابة مثلاً. وقد أصبح ممكناً عمل طبقات طويلة من أسلاك نانوية لها وظائف خاصة لها قوة شد عالية، يمكن استخدامها فى الموصلات الكهربائية على مستوى الأحجام الدقيقة جداً، وأيضاً فى بعض تطبيقات لأجهزة ميكانيكية تحتاج لدرجة عالية جداً من الثبات فى الظروف المختلفة.


o وما هى أهم وأبرز تطبيقات النانو فى مجالات الكيمياء والبيولوجيا؟
o أعتقد أن أسماء كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ستختفى عند هذا المستوي الذري الدقيق جداً. أنا شخصياً أعتقد فى أن الكيمياء والفيزياء متشابهان تماماً، حيث أنهما لهما نفس الخلفية العلمية. وأود أن أوضح هنا أن الفواصل الموجود بين المواد تتلاشى تقريباً عند مستويات دقيقة كالنانو، حيث تصبح خواصها الفيزيائية والكيميائية متشابهة تقريباً، وهنا تعتمد الأجهزة الدقيقة الناتجة على الكيفية التى تصنع بها. فقط لنا أن نقول عن استخدام النانوتكنولوجي داخل الأجسام الحية.

- وماذا عن "الدانا كمبيوتر" الذى يعرف بأنه وليد اندماج علوم الكم وثورة الجينوم؟
- ولقد نشأت أفكار عديدة للعلاقة بين فيزياء الكم والعلوم البيولوجية فى الطبيعة، تعتمد على استخدام الخلية الحية فى نقل المعلومات. وأنا أعتقد أن هذا الاتجاه يسير الى إنتاج تقنيات أكثر توافقاً مع الطبيعة تكون لها إمكانية أن تتوالد فى أحجام أصغر وأصغر، حيث استخدمت جزيئات " دي إن أيه " فى صناعة حاسبات إلكترونية تعرف بـ "الدانا كمبيوتر" والتى تعد أحد أهم الاكتشافات العلمية فى الآونة الأخيرة، حيث تمثل القدرة المزدوجة لثورتي البيولوجيا والكمبيوتر. ففي الوقت الذى تستطيع فيه الكمبيوترات العادية حساب عملية واحدة فى قدر من الزمن، يمكن للدانا كمبيوتر إجراء الحساب على عدد لإنهائي من العمليات، هذا بالإضافة لقدرتها على توفير قدر كبير من الطاقة المستخدمة فى تشغيلها، على عكس الكمبيوترات السيليكونية التى يتولد عن تشغيلها حرارة كبيرة، بالتالى يلزمه طاقة أكبر لإحداث عملية التبريد، إلا أنه لا نستطيع الحكم على هذه التقنيات بالنجاح الكامل، حيث مازال هناك الكثير المطلوب عمله فى السنوات القادمة.

- فى النهاية، نود أن نعرف منكم ماذا كان شعورك عندما علمت بخبر حصولك على الجائزة؟
- من الصعب أن تجد كلمات تستطيع بها أن تعبر بها عن الشعور بالسعادة الشديدة عندما تعرف أنك أصبحت أحد الحاصلين على جائزة نوبل. وأنا متأكد من أن كل من حصل عليها يتملكه شعور داخلي بأنها منحة من الله، لأنه لا يستطيع أى شخص أن يعمل من أجل الحصول على هذه الجائزة الكبيرة، فأشخاص قليلون جداً يكون لهم الحظ وشرف نيل الجائزة. ولا أخفى عليك سراً، أننى سألت نفسي بمجرد الإعلان عن حصولى عليها .. كم عدد الأشخاص الذين ربما أصيبوا الآن بالاكتئاب جراء معرفتهم بعدم فوزهم بها. لا شك أن جائزة نوبل هذه تعد الأعظم من نوعها فى العالم، وهى لا تعدو شرفاً لحائزها وفقط، وإنما للمعهد العلمى الذى ينتمي إليه، أو تخرج منه، ولبلده، بل والمجال الذى يعمل فيه.
ـــــــــــ
الحوار منشور فى مجلة العربي الكويتية عام 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق